لماذا الفساد فى الفلبين واضح وأكثر من مصر والدول العربية؟


عندما أتحدث عن الفساد فأنا لا أقصد حكومة معينة ولاأقصد شخص حاكم أو ملك بذاته ، وإنما أتكلم عن نظام فى مصر وفى الدول العربية ، نظام يخلق أرض خصبة للفساد ويساعد الفساد على النمو الى أن يدمر كل شئ. وعندما انتقد النظام ، فأنا لاأعنى هذا الحاكم أو ذاك ، لأنهم لم يوجدوا النظم التى هم على رأسها ، بل النظم هى التى جاءت بهم.

ولكن للأسف الشديد إذا انتقدت شيئا ما ، على سبيل المثال ، فى مصر ، وجدت من يقوم ويقول أنت كاره لمصر ، أو أنت حاقد على مصر ، أو أنت تكره الرئيس وترغب الإطاحة به. وإذا كان التعصب موجود بدرجة ما فى مصر ، فما بالك بالدول العربية ، فهو أضعاف مضاعفة. 

ذات مرة أنتقدت موقع مساند السعودى ، أنتقدت جزئية معينة فى الموقع وهى ما يتعلق بالاستقدام وبالتحديد جزئية “خدمة معروفة” ، أنا لم أتطرق لخدمات موقع مساند كلها ، وإنما جزء منه محدد علمت أن به مشاكل فنية وتقنية لا تليق بموقع عملاق مثله تتبناه الحكومة السعودية ممثلة في وزارة العمل. قام بعض المتعصبين وقد أعماهم التعصب باتهامى أنى أكره السعودية والشعب السعودى وأنى حاقد عليهم وما الى ذلك.

ومرة أخرى انتقدت تقاعس حكومة الكويت في حماية العمالة الأجنبية عندهم ، لدرجة جعلت الفلبين تتطاول عليهم وعلى العرب وعلى المنظومة الأخلاقية عند العرب ، حتى قال رئيسهم بالحرف الواحد:”هل هناك خطأ فى منظومة أخلاقكم”. وكأنه يريد أن يقول أن العرب أو الكويتيين – لأن الموضوع كان يخص الكويت – ليس لديهم أى أخلاق. واقعة محددة ، قام بها شخص كويتي لا أعتقد أن الكويتيين يفتخرون أن مثله ينتمى اليهم ، قام بعض المتعصبين وألقوا على نفس الاتهامات ، كراهية الكويت والحقد على شعب الكويت وما ألى ذلك.

بعض العرب فعلا مالهمش حل ، هذه حقيقة!

والأمثلة على ذلك كثيرة ، لا تدل إلا على تعصب أعمى و عقليات متحجرة مغلقة وانعدام بصيرة. والحمد لله أن هؤلاء ليسوا كل العرب فهناك  بين العرب بعض المنفتحين ، الذين ينظرون للنقد بعين إيجابية. أنا شخصيا كفرد يسعدنى من ينتقدنى أكثر ممن يمدحني ، طالما كان النقد بأسلوب مهذب بعيد عن الإسفاف والألفاظ النابية ، لأن النقد كالمراية أرى فيها أخطائي فاستطيع تداركها وتصحيحها.

من بين المواضيع الأكثر حساسية عند نقد الحكومات أو أحد أعضاء الحكومة هو الفساد.  وكلنا نفهم الفساد بمعن واحد ضيق وهو سلب الأموال العامة ، مثل قبول الرشاوى لتسهيل أمور غير قانونية ، أو الاستحواذ على أملاك وأموال عامة بشكل أو أخر مستعينا بالسلطة الممنوحة للمسؤل الفاسد بحكم منصبه ، الشاوى والسلب وما شابه بالتأكيد فساد يخرب كل شئ فى الدولة.

ولكن هناك ما هو أشد فسادا ، وأكثر تدميرا للدولة ، وأشد تعطيل لنموها.

لنفترض أن الرئيس أو الملك ورع وتقى جدا ، لا يقبل المال الحرام بجميع أشكاله ، ومتعبد وطاهر من كل سؤ ، ألا أنه ديكتاتور الطبع لا يقبل الرأى الآخر ويرى أن رأيه هو الصح وما سواه خطأ فلا ينبغي الإنصات أليه. فرئيس مثل جمال عبد الناصر لم يذكر منتقد له أنه من الفاسدين ماليا ، فلم يذكر أنه قبل الرشوة أو أنه أستولى على أملاك عامة ، فالرجل مات وله أملاك متواضعة.  لكن هل هو برئ من الفساد ، بالعكس فهو من أكثر الفاسدين لأن فساده هو الديكتاتورية وعدم القدرة على سماع الآخرين مما تسبب فى تدهور أحوال مصر وكان سببا – مع أسباب أخرى كثيرة – فى وصول مصر إلى الوضع المأساوي الحالى.

هذا هو الفساد الأعظم المشترك بين كل رؤساء العرب وملوكهم ، الموجودين حاليا ومن سبقهم ومن سيأتى بعدهم. وهذا يؤدى حتما إلى جميع أنواع الفساد الأخرى ، ما سبق  ذكرت وما لم أذكره.

وعندما أتحدث عن الفساد ، لا أقصد من ذلك تغيير الرئيس حتى ينتهى الفساد لأنه لن ينتهى بتغيير الرئيس ، ومصر لها تجارب كثيرة تشهد على صحة قولى ، عندما قامت ثورة يوليو وغيرت نظام الحكم تماما من نظام ملكي الى جمهوري ، وعندما اغتالوا السادات  وجاء مكانه حسنى مبارك ، وعندما استطاع الشعب زحزحة حسنى مبارك ، وجاء بعده من جاء ، هل أنتهى الفساد؟هل تحسنت أحوال مصر؟

وعندما أتحدث عن الفساد لا أقصد أن نغير النظم لكونها فاسدة ، لأنها نظم نبعت من داخلنا نحن الشعوب والمواطنين ، فكيف نغير ما ننضح نحن به ونلده بتلقائية طبيعية كما تلد الأم طفلها. فأذا غيرت الدستور إلى دستور أفضل – على الأقل من الناحية النظرية، والدستور هو منهج وقانون النظام السياسي والاجتماعي للدولة ، سوف يغيره الحاكم القادم أيا كان. 

سوف يسألني أحدكم ماذا تريد إذن؟ أنت لا تقصد تغيير الحاكم ، ولا تقصد تغيير النظام الذى يقرر طريقة الحكم ، فماذا تقصد وماذا تريد؟. 

الأجابة أن ما أقصده صعب حقا ولكن ليس مستحيلا! أقصد أنه لا أمل فى تحسن أحوال العرب ألا بتغير العرب ، لأن المواطن العرب هو من يولد منه الحاكم ، من لون جلده يتكون  لون الحاكم ، ومن طبعه وفكره واعتقاداته يخلق الحكام “مثلما تكونوا يولى عليكم”. ما أقصده أن نظام الحكم فى مصر مثلا سيظل كما هو إلى أن يتغير الإنسان المصرى ، وهو أقل المواطنين العرب بعدا عن التغيير ، أذا كان تغير المصرى صعبا ، فإن تغير العربى يبدو مستحيلا. وأهم ما يجب تغييره هو الديكتاتورية والقدرة على تقبل الآخر. 

الديكتاتورية هي أم المفاسد ، تمهد الأرض لمولد كل مفسدة ممكنة ، الحاكم الديكتاتور ، لا ينجذب إليه ألا المنافقون والوصوليون ، أما الصالحون أما يبعدون عنه خوفا منه ، و إذا اقتربوا منه قضى عليهم لعدم قبوللهم ، ويبقى فقط الفاسدون والمنافقون يزيدونه ديكتاتورية ، ويجعلونه يعتقد أنه الإله الأعظم الذى لا يخطئ أبدا ، أذا أخطأ قيل له أنه عين الصواب ، وإذا فسق قيل له أنه الصلاح ، هكذا لايرى ألا بعيونهم ، ولا يفكر ألا بعقولهم ، فيرى المخلص من المواطنين خائنا ، ولا يرى المرتشى أو السارق أو الناهب من حاشيته ، فيكون الحاكم الديكتاتورهو المفسد الأعظم وإن لم يفسد.

كيف أذن أن المعارضة فى كل دولة عربية ، لا تصف الحاكم المعارضين له ، ألا بالنهب والسلب لأموال الشعب لصالحه وصالح أولاده ومن هو من المقربين ، ويصفون الحكام بأقذر الصفات ويسبونهم بأقذر الشتائم؟ لأن أغلب المعارضين موتورين ، تعرضوا بسبب معارضتهم للقهر واضطروا للهرب من بلادهم ، فتعرضت أهاليهم وأسرهم للقمع والسلب والسجن ، وأصبحوا هم هدفا للوصوليين يصفونهم بالخيانة والتعاون مع الأعداء ، ويلصقون بهم أسوأ الصفات ، فتحولت المعارضة الى حرب ، ورغبة فى الانتقام والثأر.

ولكن إذا لم يكن الحاكم ديكتاتورا متعصبا لرأيه ، يحسن السمع لمن يعارضه بالحسنى ، بذلك تنقشع الغمامة التي يصنعها حوله المفسدون والمنافقون ، و تتسع مساحة الرؤية ، ويرى الأمور من زوايا متعددة. لم يقمع ولم يبطش بمن يعارضه أو ينتقده ، وبالتالى لن يهربوا من بلادهم ، وتظل المعارضة باقية دون أسفاف ودون رغبة في الثأر والانتقام. ولكن يحدث العكس على أرض الواقع.

يهرب الى خارج البلاد المعارضون الذين يفتشون عن الأخطاء فتظهر أمام الشعب والحكومة ، فلا صحيفة أو قناة تلفزيونية ولا قلم معارض يبقى داخل البلد ، ولا يبقى غير الحاشية التى تسيطر على وسائل الإعلام كلها كما يحدث الأن فى مصر ، و تتستر على الأخطاء والمفاسد ، فلا تظهر ولا يعلم بها أحد ، بل على العكس يزينون الأخطاء على أنها الصواب ، والمشاريع الفاشلة على أنها إنجازات عبقرية وضخمة ، يضخمون الصغائر على أنها أعظم ما تحقق فى التاريخ. والأمثلة فى مصر كثيرة على مر التاريخ.  

الوضع فى الفلبين مختلف تماما ، المواطن الفلبيني يختلف تماما عن المواطن المصرى أو العربى ، وبالتالى لابد أن تتوقع أن الحاكم أيضا مختلف تماما عن الحاكم العربى ، ونتيجة لذلك هو مانراه هنا فى الفلبين. المفاسد موجودة فى الفلبين كما أنها موجودة فى الدول العربية وغيرها من الدول ، لكن فى الفلبين الفساد يظهر على السطح لوجود هامش كبير من الحرية والديمقراطية يسمح بنشر الأخبار ليعرفها الشعب. 

الحاكم فى الفلبين محاط بكتلتين متوازيتين ، كتلة تكونها الحاشية والأتباع ، والأخرى تتكون من غير الأتباع وغير الموالين والمعارضين.

المواطن الفلبيني ليس ديكتاتورا بطبعه ، ويتقبل الآخر ويتعايش معه ، أذا ناقشته رد عليك ملتزما أدب الحوار ، وأذا أتيت بحجة لا يستطيع الرد عليها ، أنسحب من أمامك بهدوء ” لكم دينكم ولى دين” ، لا يخرج عن السيطرة ويفقد أعصابه كما يحدث مع العربى. كثير من العرب يفقد السيطرة عندما لا يجد الحجة الكافية عند الحوار ، فلا يجد أمامه ألا التعصب والسب والشتم ، هذا ما نألفه فى البرامج الحوارية التى تعرضها شاشات التلفزيون العربى ، لا توجد لباقة ولا أدب مطلقا عند الخصام والاختلاف في الحوار ، أنت تختلف معي فأنت عدوي ، أما أنا أو أنت فى هذه الحياة ، جوهر العقلية العربية ، لا تقبل ولا تعايش مع الأخر على الإطلاق. أسلوب مقزز ، ودرجة متندية من الحوار – أو العراك على الأصح – وتنتهى معظم البرامج بالشتم والسب وأحيانا الضرب واللكم بالأيدى أو القذف بالأحذية. لا يمكن أن تشاهد مثل ذلك في برامج الفلبين أيا كانت.

هذا هو العربى ، أو أغلب العرب ، ونادرا ما تجد بينهم من هو غير ذلك. 

الحاكم العربى أذا أصدر أمرا صار نهائيا لا رجعة فيه ، لأن من حوله يصورون أمره على أنه الأصوب ، وأنه الأفضل للصالح العام فيزداد الحاكم تمسكا بما أمر وينكل بمن يعارضه ، لأن من يعارض أمره يعارض الصالح العام ويضر بالوطن. فى الفلبين كثير ما يصدر الرئيس أمرا ويتراجع عنه أو يغيره ، ولا حرج. كيف يتراجع الرئيس الفلبينى عن أمره ، أكيد أنه سمع لرأى الأخرين من الموالين وغير الموالين ، وعندما لم يجد قبولا كبيرا تراجع عن أمره. حدث هذا  أكثر مرة ، مرة من المرات عندما أمر بإغلاق جميع منافذ اللوترى ، وبعدها بأيام تراجع عن قراره ، وسمح لهم بأعادة فتح محلاتهم وممارسة نشاطهم. والمتابع لأخبار الفلبين سيجد كثيرا من المرات الى تراجع فيها الرئيس عن قرار أصدره ، وهو ما لا يحدث عندنا فى مصر أو الدول العربية.

الفلبين بها معارضة حية وقوية ، يعارضون من داخل الفلبين ويمارسون حياتهم وأعمالهم دون خوف من أحد ، ولذلك تتسم المعارضة باللباقة وأدب الحوار ، خالية من الثأر أو الانتقام. يكشفون عن الأخطاء والمفاسد ، وينشرونها فى الصحف أو التلفزيون أو مقالاتهم عبر الأنترنت والسوشيال ميديا ، فتنشر الأخبار ويعلم بها الدانى والقاصى. الرئيس نفسه يتعرض للنقد اللاذع ، وأحيان الأتهام لشخصه أو لأحد المقربين له من الأبناء أو الأقارب أو الموالين ، الأمثلة على ذلك كثيرة جدا. 

ماهو رد دوتيرتى على من يعترض عليه أو يتهمه بتهمة كبرى كما حدث عندما اتهموه بالتورط في تجارة المخدرات هو وأبنه ، ماذا فعل؟ هل أنتقم ممن انتقده وشرده وشرد أسرته ، أو زج به فى السجن كما يحدث عندنا ، لم يفعل لسببين: الأول أن الرئيس الفلبينى هو أولا وأخيرا  مواطن فلبينى مثله مثل أغلب الفلبينيين عنده قدرة على تقبل النقد ، والتعايش مع منتقديه ، ثانيا أن النظام لا يعطية قوة البطش بمن يعارضه. كل ما استطاع عمله أن دفع عن نفسه التهم ، ثم حاول رفع قضايا ضد من اتهمه باتهامه خلق قصص كاذبة والباقى على المحكمة ، والرئيس ليس له سلطة على المحكمة أو القضاة.

عندنا ماأسهل أن يزج بالمعارض فى السجن حتى قبل أن توجه له أى تهمة ، ثم بعد ذلك تؤمر المحكمة بتلفيق تهم كبرى مثل التخابر مع الأعداء ، والتعاون مع جهات أجنبية ، والخيانة العظمى ، وهى تهم تدمر المعارض تدميرا ، وتلجم كل من يفكر أن يعترض. وإذا استطاع المعارض أن يهرب من البلاد قبل أن يقع فى يد السلطة الطاغية ، نكل بمن بقى فى الوطن من أسرته وأهله أسوأ ألوان التنكيل. 

فى ظل هذه الأوضاع القهرية المرعبة فى مصر أو البلاد العربية ، من هو المجنون الذي يجرؤ أن يكشف وينشر المفاسد التي يعلم بها ، وأذا فقد عقله وقرر أن يفعل فمن هو صاحب الجريدة أو مدير القناة التلفزيونية الذى يقبل أن ينشر له ، وكلهم كما نعلم أتباع وأذيال للسلطة الحاكمة ، بالتالى يبقى الفساد مختفيا مستترا فى بلادنا على كثرته لا يعلم به الشعب. ولا نعلم به ألا من الهاربين خارج الوطن ، ولا نعلم حقيقة ما ينشرون ، هل هم صادقون فيما ينشرون ، أم حاقدون موتورون لما لحق بهم وأسرهم من دمار وعذاب وتشريد. فتضيع الحقائق بين أفواه زاعقة صارخة انتقامية ، وذباب ألكترونى مجند من كلا الجانبين.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *